هبة صالح تكتب: الكتاتيب وأهميتها في عصرنا الرقمى

هبة صالح

على عكس الاعتقاد الشائع بأن تعلم البرمجة يرتبط تلقائيا بتنمية مهارات التفكير المنطقي والإبداعي، قد نجد نماذج من المبرمجين القادرين على كتابة الأكواد بسلاسة، لكنهم يتعثرون في هيكلة أفكارهم عند بناء حلول متكاملة على درجة من الكفاءة، فيأتون بسطور من الأكواد ضعيفة المنطق مهترئة البناء.

وبالمثل، في مجال الدين، نجد بعض خريجي الكتاتيب والكليات المتخصصة ممن يمتلكون قدرات تحليلية عميقة، تمكنهم من فهم شمولى للقضايا المركبة، والتي قد تكون بعيدة عنهم كل البعد، وبسلاسة يقومون بتجريدها وتحليلها ثم تبسيطها دون فقد الروابط والعلاقات السببية بين أجزائها، وصولا الى استنباط تحليلات متعددة لنفس المسائل وفي سياقات مختلفة. وقد تجد آخرين جامدين لا يملكون نصيبا مما يحدث من تطوير محيط بهم سوى التلقين والترديد.

ان الكتاتيب بريئة من هدم قدرات التفكير المنطقى والابداعى، وأن البرمجة ليست ضمانا للتفكير العميق… فكلاهما هام وفعال، يضعف بالتناول الفقير ويقوى ويثمر بالرعاية الواعية.

ان تحفيظ القرآن ليس مجرد بناء لغوي قوي أو غرس للقيم الروحية، بل يمكن أن يصبح أداة لتطوير العقل التحليلي والنقدي، بشرط التناول الواعي والمتطور.

فالتعود على التعامل مع حجم معلوماتى ضخم وتنمية ملكة الاسترجاع السريع وتعلم بناء الروابط بين أفكار الآيات يدعم قدرة التفكير المتشعب وتوليد الجديد المرتكز على مخزون غنى…. وكذلك ممارسة تدبر المعاني وطرح الأسئلة، وتحليل الروابط بين الآيات لقادر على تنمية العقل النقدى والمنطقى. أضف إلى ذلك مهارات أخرى مكتسبة من صبر وتركيز، ومهارات وضع خطط لمستهدف قصير ومتوسط وبعيد المدى، وخطط أخرى للمراجعة ومراقبة نسب التقدم وتقييم استراتيجياتها، كلها تساهم في تنمية قدرات التعلم الذاتي … يتحقق ذلك إذا ما تم تقديمه بطريقة واعية متطورة وممتعة.

تطورا لا أستثنى منه دورا للتكنولوجيا لتعيد إحياء الكتاب بعيدا عن الصورة الذهنية للملقن القاهر للعقول الصغيرة … فنرى كتابا متطورا، يقيم عليه رجال ونساء دين على دراية بعلومهم ولغات التكنولوجيا الحديثة، من برامج تعلم تفاعلى، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والتي تزداد احتياجا لعقول متمكنة تستطيع الاستمتاع بامكانياتها، بما يقلل من تأثير ضغط القضايا المتكررة، وإعطاء مساحات أكبر للتدبر في مستجدات أعمق وأدق.

وكما نهتم بالاعداد لمهن المستقبل في ضوء التسارعات التكنولوجية، سيساهم هذا الاعداد المبكر لجذب بعض من هذه العقول لاستكمال تخصصهم في نفس المجال والمشاركة في مواجهة تصاعد كل من تيار العدمية أو ألوهية التكنولوجيا…

فمجتمعات اليوم ومع تطور الذكاء الاصطناعي وسيطرته غدا، ستتصاعد فيها سيطرة التكنولوجيا القادرة على تقديم حلول في كل شيء، وسيتزايد معها الفراغ الوجداني اذا لم يجد الانسان معنى حقيقى لوجوده… وإعداد عقل قادر على الربط بين المعرفة الشرعية والتطورات التكنولوجية، وليس عقلا يكتفي بالتلقي السلبي أو الاستسلام للواقع الرقمي بدون وعى أحد المتطلبات للمجتمع بشكل عام وللمتخصصيين على وجه التحديد.

الكتاتيب ليست مشكلة، لكن صورتها الذهنية التقليدية هي التي تحتاج إلى مراجعة لتصبح أكثر توافقا وأكثر فعالية في تناول تحديات العصر وتسارع فراغه الذهني والوجداني..

كتبت: هبة صالح
رئيس معهد تكنولوجيا المعلومات ITI