لفترة طويلة من التاريخ، كان العالم محاطا بأسطورة تقول إن التحديث يعادل التغريب. وجاء ظهور التحديث الصيني النمط ليبددها، إذ لم يعد التحديث بعد الآن مسألة اختيار منفرد، بل مسألة اختيار متعدد.
وبالنسبة للعالم، فإن مهمة الصين الرامية إلى تحديث بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، أو ما يقرب من خمس سكان العالم، هي مهمة لم يسبق لها مثيل. وهذا الجهد الهائل لا يجذب الاهتمام العالمي فحسب، بل له أيضا تأثيرات عالمية.
ومن بين سلسلة من المفاهيم والمبادرات التي تدعو إليها الصين فيما يتعلق بكل من حوكمة الدولة والتفاعلات العالمية، يعد المسار الصيني نحو التحديث الكلمة الرئيسية الأكثر شيوعا التي يود الناس معرفة المزيد عنها، وفقا لمسح أجرته وكالة أنباء ((شينخوا)) في الخارج مؤخرا.
— ما هي أوجه الاختلاف بين التحديث الصيني والغربي؟
إن المسار الصيني نحو التحديث هو مسار للسلام والتنمية، والتعاون القائم على الكسب المشترك، والتناغم بين الإنسان والطبيعة، وليس التوسع الخارجي والنهب.
وفي هذا الصدد، ذكر كيث بينيت، المتخصص في الشؤون الصينية منذ فترة طويلة ونائب رئيس مؤسسة ((نادي مجموعة 48)) البريطانية، أن “المسار الصيني نحو التحديث يعكس الحكمة الصينية والحضارة الصينية والتاريخ الصيني”.
وقال “إن تحديث عدد صغير من البلدان الغربية قام على أساس استغلال وقمع واستعمار العالم بأسره تقريبا. أما الصين فلا تتطور من خلال استغلال أي دولة أخرى؛ إن الصين تطور نفسها وتُحدث نفسها، وفي الوقت نفسه تساعد الدول الأخرى على التطور والتحديث”.
ومن جانبه، ذكر مختار غباشي نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية ومقره القاهرة، أن الصين لا تسعى إلى استغلال دول أخرى أو السيطرة عليها، ولا تلعب أي دور في إثارة صراعات، مضيفا بقوله إنه لهذا السبب اكتسبت الصين احتراما وشعبية في العالم العربي.
ومن ناحية أخرى، يؤكد التحديث الصيني النمط على أهمية التقدم المادي والثقافي والأخلاقي، وهو ما يميزه عن التحديث الغربي، هكذا قال تشن قانغ، مساعد مدير معهد شرق آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية.
وأضاف تشن أن تحقيق التنسيق بين التقدم المادي والثقافي الأخلاقي يقود الطريق لتحقيق الوفرة المادية الشاملة فضلا عن التنمية الشاملة للمواطنين.
— ما الذي يمكن أن يقدمه التحديث الصيني النمط للعالم؟
تقف الصين في العالم كثاني أكبر اقتصاد ودولة كبرى مسؤولة. وتضع دائما التنمية والسلام في العالم نصب عينيها في عملية تحديثها. وذلك لأن بكين تدرك تمام الإدراك أنها لن تبلي بلاء حسنا إلا إذا أبلى العالم بلاء حسنا، والعكس صحيح.
أولا، تلتزم الصين بجعل العالم أقل فقرا وأكثر إنصافا.
بحلول نهاية عام 2020، نجحت الصين في انتشال جميع سكان الريف، الذين يعيشون تحت خط الفقر الحالي، من براثن الفقر وحققت هدف القضاء على الفقر المنصوص عليه في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 قبل عشر سنوات من الموعد المحدد.
ولدى تعليقه على حملة الصين للحد من الفقر، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن هذه الإنجازات هي “أكبر مساهمة في الحد بشكل كبير من الفقر”.
إن التحديث الصيني النمط هو أكثر من مجرد مسألة القضاء على الفقر المدقع، إذ إنه يعمل على تعزيز الرخاء المشترك، وبالتالي تقليص كل من الفجوة الهائلة في الثروة والتفاوت بين الناس اللذين تزايدا جنبا إلى جنب مع التحديث الغربي.
وسلط الباحث والمعلق السياسي البريطاني مارتن جاك الضوء على سعي الصين إلى تحقيق الرخاء المشترك، معربا عن أسفه إزاء عدم تعامل الدول الغربية مع هذا الأمر بجدية على الإطلاق.
وقال إن “قيام الصين باحتضان الرخاء المشترك وإقامة مجتمع يتسم بقدر أكبر من العدالة، وقدر أكبر من الإنصاف، يعد رسالة بالغة الأهمية ليس فقط للصين والشعب الصيني وإنما للعالم أيضا”.
كما تتقاسم الصين، في طريقها نحو التحديث، عوائدها التنموية مع بقية العالم.
والمثال على ذلك مبادرة الحزام والطريق. فتوقعات البنك الدولي تشير إلى أنه إذا تم تنفيذ جميع مشاريع البنية التحتية للنقل المقررة في إطار الحزام والطريق، ستحقق المبادرة إيرادات عالمية تصل قيمتها إلى 1.6 تريليون دولار أمريكي سنويا حتى عام 2030. وستذهب نسبة تصل إلى 90 في المائة من هذه الإيرادات إلى البلدان الشريكة.
وفي هذا الإطار، قال خيري تورك، أستاذ الاقتصاد في كلية ستيوارت للأعمال في معهد إلينوي للتكنولوجيا في شيكاغو، إن “أهم شيء في مبادرة الحزام والطريق هو أن الدول النامية يمكن أن تستفيد من التجربة العظيمة المتجسدة في تنمية الصين. وإن مبادرة الحزام والطريق تمنحهم الفرصة لإنشاء مجتمع صناعي والانضمام إلى العصر الحديث. وهذا أمر يبشر بالخير على المدى الطويل بالنسبة لمستقبل البشرية”.
ثانيا، تلتزم الصين بجعل العالم أكثر اخضرارا وأكثر تنوعا من الناحية البيولوجية.
تحتل الصين المرتبة الأولى عالميا في مساحة الغابات المزروعة ونمو التغطية الحرجية، حيث ساهمت بربع مساحة الغابات الجديدة في العالم في العقد الماضي.
في الفترة ما بين عامي 2012 و2021، انخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 34.4 في المائة، وانخفض استهلاك الطاقة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 26.4 في المائة، أي ما يعادل توفير 1.4 مليار طن من الفحم المعياري.
وقد برزت الصين أيضا كنصير رئيسي للطاقة المتجددة، وتعمل جاهدة للاستفادة من إمكانات مبادرة حزام وطريق خضراء.
وأشاد سيمون ستيل، الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، بموقف الصين الثابت والمتسق بشأن التصدي الفعال لتغير المناخ، وكذلك بالجهود التي تبذلها لترجمة الالتزامات المتعلقة بالمناخ إلى إجراءات ملموسة.
وقال ستيل إنه في الوقت الذي يواجه فيه العالم أزمة طاقة، تواصل الصين إحراز تقدم راسخ في التعامل مع تغير المناخ وتلعب دورا هاما في دفع الاستجابة العالمية لتغير المناخ.
من ناحية أخرى، تحت رئاسة الصين، قام الاجتماع الـ15 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي باعتماد إطار التنوع البيولوجي العالمي قبل الموعد المحدد. وقد أظهرت الصين دورا قياديا في حماية التنوع البيولوجي العالمي، حسبما ذكر إنغر أندرسن، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
ثالثا، تلتزم الصين بجعل العالم أكثر سلاما.
فلأكثر من 70 عاما، لم تبدأ الصين حربا قط، ولم تحتل قط شبرا واحدا من أراض أجنبية، ولم تنخرط قط في حروب بالوكالة، ولم تكن قط عضوا في أي كتلة عسكرية أو تقم بتنظيمها.
وهي الدولة الوحيدة التي أدرجت التنمية السلمية في دستورها، والدولة الوحيدة بين الدول الخمس الحائزة للأسلحة النووية التي تعهدت بألا تكون البادئة باستخدام الأسلحة النووية. إن سجل الصين الحافل بالسلام يستطيع أن يصمد أمام التاريخ، وصعودها السلمي معجزة غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
منذ استعادت الصين مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة في عام 1971، شاركت الصين بنشاط في التسوية السياسية للقضايا الإقليمية الرئيسية الساخنة، بما في ذلك القضية النووية في شبه الجزيرة الكورية، والقضية النووية الإيرانية، وأفغانستان، وميانمار، والقضية الفلسطينية الإسرائيلية.
في إطار التصدي للصراعات والتحديات الأمنية المتصاعدة في عالم اليوم، اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الأمن العالمي في مراسم افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي 2022.
وفي الوثيقة المفاهيمية بشأن مبادرة الأمن العالمي التي صدرت في الشهر الماضي، واصلت الصين عرض الأفكار والمبادئ الجوهرية للمبادرة، وحددت أولويات التعاون ومنصاته وآلياته، وبرهنت على إحساس الصين بالمسؤولية تجاه صون السلام العالمي وعزمها الراسخ على الدفاع عن الأمن العالمي.
وذكر الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي-مون أن “فكرة الصين بأن تكون بانية للسلام العالمي، ومساهمة في التنمية العالمية، ومدافعة عن النظام الدولي، وموفرة للمنافع العامة تتفق مع المثل العليا لميثاق الأمم المتحدة”.
— هل يقدم نهجا بديلا؟
إن التحديث الصيني النمط يعد نموذجا جديدا للنهوض البشري، ويبدد الأسطورة القائلة بأن “التحديث يعادل التغريب”، ويقدم صورة أخرى للتحديث، ويوسع القنوات أمام الدول النامية لتحقيق التحديث، ويقدم حلا صينيا للمساعدة في استكشاف نظام اجتماعي أفضل للبشرية، وفقا لما قال شي ذات مرة.
وقد قال ديفيد مونياي، مدير مركز الدراسات الأفريقية الصينية في جامعة جوهانسبرغ، إن صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية بدد الفكرة التي ظلت راسخة لفترة طويلة وهي أن التحديث يعني التغريب.
أما الأمين العام لحزب العمل الكونغولي بيير موسى، فذكر أن المسار الصيني للتحديث قدم “مثالا يحتذى به” للدول النامية، وخاصة الدول الأفريقية، عندما واجهت أزمات متعددة أعاقت تنميتها في السنوات الأخيرة.
وقال “بوسعهم أن يجدوا في هذا النموذج عناصر لبناء مسار تنموي يمكنهم من مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية”.
“فالتحديث لم يكن أبدا مجرد تغريب”، هكذا ذكر تشن، مضيفا أن “التحديث الصيني النمط هو نموذج تنموي جديد، يمكن استخدامه كمرجع للدول الأخرى ذات الظروف الوطنية المماثلة أو في مرحلة مماثلة من التنمية”.