هبة صالح تكتب: نِقَاط مضيئة في العريش، ولكن…

هبة صالح

في طريقي للعريش، تذكرت كتابات د. جمال حمدان في كتابه “سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا”، الذي يتحدث فيه عن ارتباط أمن مصر بأمن بواباتها المختلفة والمتفاوتة في أهميتها.

من جنادل أسوان الطبيعية جنوبا، إلى مرمريكا في الشمال الغربي عند هَضْبَة الرويسات ومنطقة العلمين، حتى الشريط الشمالي من سيناء والمدخل الشرقي لمصر ممثلا لها البوابة الكبرى والأكثر استراتيجية، حقيقة يؤكدها تاريخ مصر العسكري وحاضرها ومستقبلها الأمني والاقتصادي.

أخدنا المحور الشمالي الموازي للساحل، أحد المحاور العرضية الأساسية لشمال سيناء طبقا لوصف د. جمال، واللي يبدأ من القناة عند القنطرة مرورا بالبوظة، ثم رمانة وبئر العبد على طرف بحيرة البردويل، حتى العريش حيث وصلنا، الذي يستمر بعد ذلك للشيخ زويد ثم رفح اتصالا بِطْرِيق الساحل في فلسطين. وأدعوك لتستمتع بجغرافيا قصصية نابضة وفى يدك خريطة لشبه الجزيرة، وأنت تقرأ في الفصول الأولى بالكتاب عن جيواستراتيجية سيناء، ودور محاورها الأفقية الثلاثة كخطوط دفاع يمثل أمانا للوادي كله، ليس فقط كعازل وعمق وإنذارا مبكرا من الناحية الأمنية، ولكن أيضا وكما وصفها الكاتب “صندوقا من ذهب” لا “صندوقا من رمال”، وخيرا كثيرا من خيرات وثروات سمكية و زراعية و حجرية و معدنية وبترولية، أنعم الله علينا بامتلاكها، لنمتلك معها مفاتيح تشغيل أو شل مصر -لا قدر الله- مجازا وحقيقة.

رأينا “بشاير” هذا الخير على جانبي الطريق، من أشجار نخيل على مساحات متناثرة رغما عن اللون الأصفر المحيط بها، وبمساعدة مياه الأمطار التي طالعتنا متجمعة يمينا ويسارا على طول الطريق في تجمعات عشوائية متعددة.

تشبه ما تحدث عنه د. جمال في كتابه، حيث أشار إلى أفضلية الشريط الشمالي الساحلي للزراعة في ضوء ما تنعم به المنطقة من آبار جوفية وأمطار يسقط بعضها على المحاصيل قاصدًا، ومنها ما يتسرب في الكثبان الرملية ويتم تخزينها في قاعها ثم تستدق في الآبار الضحلة لتروي محاصيل أخرى بين فجوات الكثبان تصلنا ونذوقها حتى الآن نحن أبناء الوادي من خيرات أشجارها المثمرة من التين والخوخ السيناوى، والزيتون والبطيخ الذي علمت لأول مرة أننا كما نستمتع به، يستخدم جزءا منه علفا لجزء من ثروة أخرى وهى الإبل والثروة الحيوانية، وهى ثروة أخرى تحدث عنها الكتاب، كحرفة يمتهنها ما يوازي ثلثي السكان ويتصدر ظهير الطريق الساحلي الصدارة من حيث المناطق الأكثر شهرة بالرعي.

تذوقنا من لحمها الطيب، وعلى عكس ما عهدنا أنفسنا عليه من عزوف عن طعم ورائحة الضأن، كانت من أطيب الوجبات طريقة وطعما ورائحة، وعند سؤالي عن السعر وبالإضافة لجودتها، كانت في حدود من 40-50% من قيمة ما هو موجود بالقاهرة، في حال شرائها، لأن معظم السكان يعتمدون على ما يقومون بتربيته بأنفسهم. وفى ضوء ما سمعته، يمكنك القياس بالمثل، جودة وأسعار فيما يخص أسماك البورى والدنيس وأنواع أخرى من ثروة بحيرة البردويل السمكية.

وتحدث د. جمال و باستفاضة عن رهن تطوير هذه الثروات بمشروعات الري والاستصلاح. “وطبعا” مع مشروعات الدولة الجارية من إنشاء محطات التحلية سواء من البحر أو بالمعالجة الثلاثية لمياه الصرف، إلا أنني وأثناء الوضوء وعندما ذقت مياها غريبة المذاق، تذكرت الخزانات البلاستيكية فوق البيوت في طريقنا، وعلمنا أن مياه النيل لا تصل للأهالي الآن بعدما كانت تصل إليهم مرة في الأسبوع سابقا.

لأسترجع مرة أخرى ما كتبه د. جمال مؤكدا أنذاك، عن أن إمكانات وموارد سيناء الكامنة تفوق بكثير الموارد المنتجة والمستغلة من حيث الآبار التي لم تستغل (بير حبشى في شرق البحيرات، ونخل وَسَط سيناء وبئر أبو قطيفة جنوب شرق السويس) والمياه السطحية والسيول الجارية واحتياجها إلى الصهاريج الصخرية بديلا عن تجربة السدود الصغيرة التي لم تنجح سابقا لأسباب ذكر بعضها، حتى توصيل مياه النيل وتكلفته العالية التي تمت في الماضي ثم توقفت في إطار مشروع استهدف وقتها استصلاح 50 ألف فدان غرب سيناء كمرحلة أولى على أن يليها تضمين “سهل الطينة” كمرحلة ثانية لينتهي متصلا بوادي العريش.

تحدث الكتاب أيضا عن الهيكل العمراني، وتوزيعه الجغرافي عبر أقاليم سيناء. الذي يظهر نموه منذ تاريخ إصدار الكتاب حتى الآن، أي خلال ما يقرب من ربع قرن، ما يوازي زيادة عدد السكان خمس أضعاف تقريبا. يصل عددهم في شمال سيناء اليوم إلى أقل قليلا من نصف مليون مواطن وهي زيادة لازالت متواضعة في ضوء ما تملكه المنطقة من فرص واحتياج اقتصادي وأمني. نتعامل مع العديد من شباب سيناء عامة وشباب شمال سيناء خاصة، “انطلاقا من” برامجنا التدريبية في مجال تكنولوجيا المعلومات في مراكز مثل قطية وبئر العبد بشمال سيناء، والحسنة ونخل في وسطها، والذي يدفعنا شغفهم واهتمامهم بالعلم إلى ضخ المزيد من المنح الذي تدعمها وتعزز استثماراتها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من خلال رفع كفاءة مراكز التدريب المختلفة من حيث الإنترنت والأجهزة وزيادة استثمارات المنح التدريبية المنفذة داخل هذه المراكز مباشرة أو بواسطة فرع المعهد داخل الإسماعيلية والأقرب إليهم.

يمثل لنا هؤلاء الشباب نقاطا مضيئة، سعدنا بهم في أثناء مناقشة مشروعات تخرجهم واستخداماتهم لتقنيات إنترنت الأشياء في مراقبة وإدارة أنظمة الطاقة الشمسية المشغلة لأراضيهم الزراعية ومتابعة مستوى المياه والرطوبة بالأرض عن بعد. نقطة ضوء أخرى سعدنا بها كان بطلها أحد الشيوخ، “الشيخ حميد من قطية” المحب للعلم وطالب الدكتوراه حاليا، واهتمامه بالمتابعة ودفعه لنا للمزيد وأسئلته عن أنواع البرامج القادرة على خلق فرص عمل لهم.

ضوء آخر وجدناه داخل جامعة العريش متمثلا في قيادة الجامعة الواعية و المتحمسة لمزيد من التعاون لخدمة شباب الجامعة من أبناء المحافظة وتمكينهم بمهارات مهن أسواق التكنولوجيا المتصاعدة. تعاون جديد، نعمل عليه الآن ليرى النور قريبا في مجال الاستثمار في كوادرنا من أبناء سيناء.

نِقَاط مضيئة تنضم لنقاط أخرى تقوم بها الدولة، شاهدناها وسمعنا عن بعضها من أهل المدينة فيما يخص محطات تحلية، وسيارات تم توزيعها لخلق فرص عمل، وطرق يتم تمهيدها وأراض يتم إتاحتها، وقوى جيشنا الغالي في مقدمتهم، يدعو لهم ويثمن على تعبهم وتضحياتهم الجميع دون استثناء.

نِقَاط ضوء متعددة ومختلفة، ولكنها متناثرة، لا تستطع من تناثرها أن تصبح طاقة تنموية واقتصادية وأمنية مستدامة.

نِقَاط مضيئة سرعان ما تطفئها صور المنازل العشوائية الموجودة التي تقابلك في مدخل مدينة العريش والطريق إليها دون تخطيط، سواحل ساحرة تتميز بنخيلها بين رمالها وينقصها الخِدْمَات، أسفلت جديد يتم إعداده، تمهيدا لزيارة قريبة، ومن أسفله بنية ضعيفة من الخِدْمَات الأساسية اللازمة لمتطلبات عصر، طريق يتخلله لافتات تطلب منك الابتعاد عن طرفيه، حماية من عبوات ناسفة محتملة على أثر جهود ضخمة من قواتنا وجيشنا، سابقة ولازالت، للتخلص من أية عناصر إرهابية مازال آثارها موجودة في ثقوب بالبيوت أو الأعمدة تلاحظها العين المجردة في الطريق، لتستدعي معها صورا تاريخية لحقب سنوات ما بعد الحرب.

إن حماية ما تم من استثمارات الدولة في خلق الأمن بالمنطقة وما يتم ضخه حاليا من استثمارات في مشروعات متفرقة، في حاجة إلى تيني خُطَّة تنمية شاملة، تستهدف بناء العريش ومدن شمال سيناء قبلة اقتصادية حديثة تنتسب كصورة وحقيقة للمستقبل.

خُطَّة شاملة لبنيتها التحتية وتطوير خدماتها الأساسية كمدينة حديثة، ومناهج وموارد مدارسها وجامعاتها البشرية، وموانيها ولدورها اللوجستي، وسياحتها بشواطئها ومحمياتها حتى مسابقات هجنها، وثرواتها التعدينية والزراعية والسمكية والحيوانية وأماكنها التاريخية والمقدسة.

خُطَّة متكاملة تحقق معها زيادة معدلات السكان لمزيد من التعمير ومزيد من التنمية ومزيد من الانتماء الحقيقي ولا سيما لدى الأجيال الشابة فيأتي معها مزيدا من الأمان. خُطَّة تتضمن هويتها البصرية لتستقبلك من بداية الطريق معاصرة حديثة دون طمس هويتها وطبيعتها الساحرة.

تستحق شمال سيناء ومدنها وبعد أن استتب أمنها، أن نبنيها بالعلم والدراسات الجادة، واجبا مستحقا لمن ضحوا سابقا، ومفتاحا لحاضر ومستقبل اقتصادي نحن في حاجة إليه، وأمنا وحماية لمن سيأتي بعدنا من أخطار حولنا.

بقلم: د. هبة صالح
رئيس معهد تكنولوجيا المعلومات