النووي.. حين تسمع هذه الكلمة، تتذكر تلقائيًا مشهد سحابة عش الغراب المميزة للتفجيرات النووية، وتعود بذاكرتك لنهاية الحرب العالمية الثانية، حتى تتذكر كل ما قرأته ودرسته سابقًا عن دمار هيروشيما وناجازاكي بالقصف النووي، واستسلام اليابان غير المشروط لأمريكا بعدها، بسبب خوفهم من السلاح الأسطوري المرعب الذي ظهر فجأة!
ليس هذا فحسب..
سيذهب خيالك أيضًا إلى كارثة مفاعل تشيرنوبل الشهير التي حدثت في أوكرانيا حين كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي في الثمانينات، وتسببت في كارثة اشعاعية لم تحدث من قبل في التاريخ، وقتلت آلاف من الناس وكانت ممكن تتسبب في موت الملايين.. غير ذلك ستتذكر حادث مفاعل فوكوشيما الياباني، وحوادث أخرى تشترك جميعها في درجة الرعب التي تفوق الخيال..
سيرة الطاقة والإشعاعات النووية من ضمن الأشياء سيئة السمعة في الوعي الجمعي البشري، بسبب كل الحوادث والكوارث المرتبطة بها منذ اكتشافها وحتى الآن.. لكن الحقيقة أن الطاقة النووية مثل أي اختراع اكتشفه البشر في التاريخ؛ عبارة عن سلاح ذو حدين ومثلما لها أضرار كثيرة، لها فوائد أكتر بكتير، ويمكن تكون واحدة من أهم الابتكارات العلمية في التاريخ، بسبب تطبيقاتها في طرق العلاج الحديثة، والتي استطاعت تغيير شكل الطب الحديث تمامًا، وتعالج أمراض وحالات “كنا فاكرينها مالهاش علاج”!
“تعالى بقى معايا النهارده أحكيلك عن الطب النووي ونفهم مع بعض هو أيه بالظبط، وليه الأطباء اللي عاصروا بدايته كانوا بيقولوا إنه أقرب للسحر الحقيقي”.
“الحكاية بدأت عام 1936، لما الطبيب وعالم الفيزياء (جون لورنس John Lawrence) الملقب بـ (أبو الطب النووي)، عمل أول تجربة في التاريخ يتم فيها استعمال الإشعاع النووي الناتج من (الفسفور-32) اللي هو واحد من النظائر المشعة لعنصر الفسفور، في علاج سرطان الدم أو اللوكيميا”.
“من وقتها، بدأ مجال الطب النووي يتشكل وياخد مكانه وسط تقنيات الطب الحديث اللي بيتم استعمالها في علاج الأمراض المستعصية.. وأول قسم للعلاج بالطب النووي في العالم اتعمل سنة 1949 لما الدكتور (سول هيرتز Saul Hertz) أنشأ قسم الطب النووي في مستشفى ماساتشوستس للنساء، بهدف استعمال النظائر المشعة في تشخيص وعلاج ودراسة الأمراض المستعصية.. ومن ساعتها بدأ بقى النوع ده من الطب، لحد ما وصل لشكله الحالي اللي نعرفه النهارده”.
“من ساعة ما بدأ، ولحد عصرنا الحالي، الطب النووي عمل ثورة كبيرة جدا في المجال الطبي، وظهرت بسببه تطبيقات أسطورية محدش من الأطباء اللي كانوا عايشين زمان كان يقدر يتخيلها حتى في أكثر أحلامه طموحًا.. التطبيقات منحتنا القدرة على الرؤية بعمق جوه جسم الإنسان، بوضوح ودقة مكانتش موجودة قبل كده.. وتعالى أحكيلك ازاي”.
“زمان.. أكبر مشكلة كانت بتواجه الأطباء في جميع انحاء العالم هي أن جسم الانسان معتم، ومنقدرش نشوف من خلاله ولا نعرف أيه المشاكل اللي بتحصل جواه.. والحل الوحيد اللي كان متاح علشان نقدر نشوف المشكلة في جسم الانسان ونحاول نعالجها كانت حاجة اسمها الجراحة الاستكشافية أو الـExploratory Surgery.. ودي كانت جراحة بيستعملها الأطباء زمان عشان يقدروا يشوفوا جوه جسم المريض
ويعرفوا أيه العلة اللي بيشتكي منها”.
“طبعًا زي ما انت أكيد خمنت، فالجراحات الاستكشافية دي كانت حاجة متعبة ومكلفة وخطيرة جدًا على حياة المريض، وللأسف مكانش في خيارات تانية غيرها زمان.. بس بعد ما تم اكتشاف الطاقة النووية وتطبيقاتها، قدر الأطباء يوصلوا لنوع جديد من تقنيات التصوير، بيستعملوا فيه الإشعاع.. والتقنية دي وصلتنا لإننا نقدر أخيرًا نشوف جوه جسم الإنسان، وترصد أعضاؤه بدقة كبيرة جدًا، وبدون ما نضطر لعمل جرح واحد!
والتقنيات دي حاليًا أصبحت مشهورة جدًا وموجودة جوه كل مستشفى متجهز كويس، زي مثلًا تقنيات التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني أو اللي بيسموها (PET Scans)،
وتقنيات التصوير المقطعي بإصدار فوتون واحد، أو الـ (SPECT).. ده غير كمان تقنيات مسح العظام بأشعة X وغيرها من التقنيات الحديثة”.
“طبعًا كل التقنيات دي كانت سبب في فوائد عظيمة في مجال العلاج، وبقى يتم بعدها استعمالها في الكشف عن الأورام والسرطانات والأمراض الخبيثة، وأمراض تمدد الأوعية الدموية وتدفق الدم غير المنتظم، وكمان ادتنا القدرة على اننا نتعرف على أي قصور بتحصل في أداء الغدد والأعضاء التنفسية، اللي زي الغدة الدرقية والرئة”.
“في كمان طريقة عبقرية بيتم استعمالها في مسح شرايين القلب والأوعية الدموية، وبتعرفنا اذا كان جواها أي انسداد أو ضيق، واللي هي حاجة كانت شبه مستحيلة زمان قبل الطب النووي، ولو كنت حكيت عنها بس لأي دكتور زمان في الأربعينات أو الخمسينات من القرن اللي فات، كان هيقول عليك مجنون أو ساحر.. الطريقة دي بيسموها اختبار “الإجهاد بالثاليوم “stress thallium test، وفيه بيتم حقن المريض بمركب من عنصر الثاليوم المشع، وبعدين بيخلوه يتدرب على جهاز المشي أو الـ Treadmill لحد ما يتعب، وفي نفس الوقت بيتم تصويره بكاميرا بتشتغل بأشعة جاما”.
“وبعد ما المريض يتعب، بيسيبوه يرتاح لفتره، وبعدين بيصوروه تاني بدون ما يمارس أي نشاط أو يتعب خالص..
لما بيتم مقارنة الصور دي بقى بعدها، وبيحطوا شكله قبل التمرين وبعده جنب بعض، بيلاقوا ان في تغييرات في مستوى تدفق الدم جوه القلب والشرايين.. وبكده يعرفوا اذا كان في حاجة مسدودة ولا مش شغالة كويس.. حاجة بالنسبة للطب القديم هي أقرب للسحر فعلًا.. ده غير كمان الطريقة اللي بيستعملوا فيها تقنيات الطب النووي في الكشف على العظام، من خلال حقن الجسم بمادة مشعة اسمها (ميثيل ديفوسفات التكنيشيوم – ب)”.
“المادة المشعة دي لما بتتحقن جوه جسم الانسان بتتجمع بعدها في العظام، عشان العظام ليها قدرة عالية على جذب مركبات الفوسفور.. فاللي بيحصل بقى هو ان المادة المشعة دي بتتراكم على العضم، وتحديدًا في المناطق اللي فيها النشاط الأيضي مرتفع، وبكده بتُظهر الصورة الناتجة لينا على هيئة (نقط منورة) ليها نشاط مرتفع، و(نقط مظلمة) ليها نشاط منخفض”.
“ده بقى بيتم استعماله في الكشف عن الأورام الموجودة في العضم!.. بردو سحر بالنسبة لأي دكتور من المدرسة القديمة كان بيشتغل بالسماعة والمشرط”.
طبعًا هنا أكيد هيخطر في بالك سؤال،
طب هو الإشعاعات دي كلها مش بتأثر على جسم الإنسان وتضره؟!.. مش هي المفروض زيها زي الإشعاعات
الناتجة عن القنابل أو تسريبات المفاعلات النووية؟!
“الحقيقة هي ان المواد المشعة اللي بيتم حقنها في الجسم أو تصويره بيها دي، مش بتأثر عليه خالص تقريبًا..
وده علشان النظائر المشعة اللي بيتم استعمالها في تنقيات الطب النووي دي كلها بتكون بكميات صغيرة جدًا ومخففة، وكمان بتتحلل بسرعة في دقايق أو ساعات بالكتير..
ومستواها الإشعاعي بيكون أقل بكتير من الإشعاعات اللي بتنتج من التطبيقات العسكرية أو اللي في مفاعلات توليد الطاقة.. وأي آثار ضئيلة بتنتج عنها، بيتخلص منها الجسم بسهولة عن طريق عملية الإخراج وومش بتفضل كتير في الجسم”.
“المشكلة في أن في بعض الخلايا بتتأثر بشدة بالإشعاعات المؤينة، اللي هي أشعة ألفا وبيتا وجاما و الأشعة السينية أو أشعة X.. وده بيتسبب في تكاثر وانقسام الخلايا بعدها بشكل ضخم وسريع، والسبب في ده بسيط”.
“الخلايا في الواقع بتمتلك جواها آلية ربانية كده، بتخليها تعرف وتميز أول ما يحصلها أي تشوه أو تلف في حمضها النووي..
وعشان كده بتبدأ تتكاثر بشكل كبير عشان تعوض التلف ده وتصلحه.. وفي أثناء ما الخلايا دي بتنقسم وتتكاثر، لو في أي خلية اكتشفت ان حمضها النووي تالف في وسط ما هي بتتكاثر، فهي بتدمر نفسها بنفسها عشان تحمي الجسم من أي أضرار
ممكن تأدي لظهور أورام سرطانية بعد كده”.
“المشكلة أن الخلايا اللي بتتكاثر بسرعة دي بتبقى عندها وقت أقل بكتير عشان تقدر تكتشف وتعالج الأخطاء اللي بتحصل في حمضها النووي وتصلح نفسها..وعشان كده الخلايا دي بتكون معرضة أكتر للتدمير لما بيتم تعريض الجسم للأشعة النووية..
وهي دي بقى نفس الفكرة اللي بيستعملوها في تدمير الخلايا السرطانية”.
“الخلايا السرطانية دي في الواقع بتبقى من نوع الخلايا اللي بيتكاثر وينقسم بسرعة كبيرة عشان ينتشر في الجسم، وبالتالي لما بتتعرض للإشعاع، بتوقف نموها وتتدمر، ومدى دمارها ده بيعتمد على نوع الورم وقوة الإشعاع نفسه.. وعشان كده بيتم تعريض مرضى السرطان للعلاج بالأشعة النووية.. ولما بيكون الورم موجود في أماكن عميقة جوه الجسم، بيتم تركيز الأشعة السينية عالية الكثافة على المكان ده عشان تساعد في علاجه”.
“المشكلة بقى اللي بتواجه النوع ده من العلاج، هو ان الأشعة دي ممكن تأثر كمان على الخلايا الطبيعية، وتاخدها عاطل في باطل زي ما بيقولوا، مع الخلايا السرطانية.. وده بيسبب ضرر لجسم المريض، وهو اللي دايمًا بيكون السبب في تساقط الشعر والغثيان والقيء المستمر اللي بيمر بيه كل اللي بيتعرض للعلاج الإشعاعي ده.. شوف انت بقى وحاول تتخيل معايا مدى فعالية التقنية دي، اللي بتوصلها لانها تعالج حاجة ما زالت لحد النهارده مستعصية على الطب الحديث زي السرطان”.
“الحقيقة إني لما بقولك أن الأطباء الأوائل اللي عاصروا التكنولوجيا دي في بداية تكوينها واستعمالها، كانوا حاسين انهم فجأة نطوا نطة كبيرة جدًا تقدر بعشرات السنين للمستقبل..
ومحدش كان متخيل اننا فجأة بقينا قادرين نشوف جوه الأجسام ونعالج الأورام بمجرد اشعاعات غير مرئية.. ولحد النهارده ما زال الطب النووي مش معروف لكل الناس،وفي بعض الدول والشعوب الفقيرة الموجودة في العالم اللي معندهمش أدنى فكرة عن التكنولوجيا دي، ولسه لحد النهارده بيتعاملوا بالطرق البدائية”.
“تخيل انت بقى لما نفس الطاقة والابتكار اللي تم استعماله أول ما ظهر في التدمير وقتل الملايين، يبقى لحد النهارده بعد أكتر من نصف قرن كامل، هو أكبر انجاز تقني في المجال الطبي في العصر الحديث!وعشان كده، دايمًا بنقول ان العلم في صورته الأساسية والمجردة.. هو هدف نبيل في حد ذاته”.
“السعي للعلم والمعرفة هو أسمى هدف ممكن يعيش عشانه الإنسان.. وبرغم انه ممكن في المستقبل يتحول لسلاح ذو حدين، ويتم استعماله في أغراض التدمير”.
“بالظبط زي ما حصل مع ألفريد نوبل لما اخترع الديناميت، إلا أن مفيش تطور ممكن يحصل في يوم بدون السعي للمعرفة..
هو ده الهدف من وجودي ووجودك في الدنيا دي”..
بقلم| عماد عصام
مؤسس قناة العلم بالملعقة على يوتيوب